فصل: الآية رقم‏(‏254‏)‏

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرطبي المسمى بـ «الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان» **


 الآية رقم‏(‏254‏)‏

‏{‏يا أيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة والكافرون هم الظالمون‏}‏

قال الحسن‏:‏ هي الزكاة المفروضة‏.‏ وقال ابن جريج وسعيد بن جبير‏:‏ هذه الآية تجمع الزكاة المفروضة والتطوع‏.‏ قال ابن عطية‏.‏ وهذا صحيح، ولكن ما تقدم من الآيات في ذكر القتال وأن الله يدفع بالمؤمنين في صدور الكافرين يترجح منه أن هذا الندب إنما هو في سبيل الله، ويقوى ذلك في آخر الآية قوله‏{‏والكافرون هم الظالمون‏{‏ أي فكافحوهم بالقتال بالأنفس وإنفاق الأموال‏.‏

قلت‏:‏ وعلى هذا التأويل يكون إنفاق الأموال مرة واجبا ومرة ندبا بحسب تعين الجهاد وعدم تعينه‏.‏ وأمر تعالى عباده بالإنفاق مما رزقهم الله وأنعم به عليهم وحذرهم من الإمساك إلى أن يجيء يوم لا يمكن فيه بيع ولا شراء ولا استدراك نفقة، كما قال‏{‏فيقول رب لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق‏}‏المنافقين‏:‏ 10‏]‏‏.‏ والخلة‏:‏ خالص المودة، مأخوذة من تخلل الأسرار بين الصديقين‏.‏ والخلالة والخلالة والخلالة‏:‏ الصداقة والمودة، قال الشاعر‏:‏

وكيف تواصل من أصبحت خلالته كأبي مرحب

وأبو مرحب كنية الظل، ويقال‏:‏ هو كنية عرقوب الذي قيل فيه‏:‏ مواعيد عرقوب‏.‏ والخلة بالضم أيضا‏:‏ ما خلا من النبت، يقال‏:‏ الخلة خبز الإبل والحمض فاكهتها‏.‏ والخلة بالفتح‏:‏ الحاجة والفقر‏.‏ والخلة‏:‏ ابن مخاض، عن الأصمعي‏.‏ يقال‏:‏ أتاهم بقرص كأنه فرسن خلة‏.‏ والأنثى خلة أيضا‏.‏ ويقال للميت‏:‏ اللهم أصلح خلته، أي الثلمة التي ترك‏.‏ والخلة‏:‏ الخمرة الحامضة‏.‏ والخلة ‏(‏بالكسر‏)‏‏:‏ واحدة خلل السيوف، وهي بطائن كانت تغشى بها أجفان السيوف منقوشة بالذهب وغيره، وهي أيضا سيور تلبس ظهر سِيَتي القوس‏.‏ والخلة أيضا‏:‏ ما يبقى بين الأسنان‏.‏ وسيأتي في ‏{‏النساء‏{‏ اشتقاق الخليل ومعناه‏.‏ فأخبر الله تعالى ألا خلة في الآخرة ولا شفاعة إلا بإذن الله‏.‏ وحقيقتها رحمة منه تعالى شرف بها الذي أذن له في أن يشفع‏.‏ وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ‏{‏لا بيع فيه ولا خلة، ولا شفاعة‏{‏ بالنصب من غير تنوين، وكذلك في سورة ‏{‏إبراهيم‏{‏ ‏{‏لا بيع فيه ولا خلال‏}‏إبراهيم‏:‏ 31‏]‏ وفي ‏{‏الطور‏]‏ ‏{‏لا لغو فيها ولا تأثيم‏}‏الطور‏:‏ 23‏]‏ وأنشد حسان بن ثابت‏:‏

ألا طعان ولا فرسان عادية إلا تجشوكم عند التنانير

وألف الاستفهام غير مغيرة عمل ‏{‏لا‏{‏ كقولك‏:‏ ألا رجل عندك، ويجوز ألا رجل ولا امرأة كما جاز في غير الاستفهام فاعلمه‏.‏ وقرأ الباقون جميع ذلك بالرفع والتنوين، كما قال الراعي‏:‏

وما صرمتك حتى قلت معلنة لا ناقة لي في هذا ولا جمل

ويروى ‏{‏وما هجرتك‏{‏ فالفتح على النفي العام المستغرق لجميع الوجوه من ذلك الصنف، كأنه جواب لمن قال‏:‏ هل فيه من بيع ‏؟‏ فسأل سؤالا عاما فأجيب جوابا عاما بالنفي‏.‏ و‏{‏لا‏{‏ مع الاسم المنفى بمنزلة اسم واحد في موضع رفع بالابتداء، والخبر ‏{‏فيه‏{‏‏.‏ وإن شئت جعلته صفة ليوم، ومن رفع جمله ‏{‏لا‏{‏ بمنزلة ليس‏.‏ وجعل الجواب غير عام، وكأنه جواب من قال‏:‏ هل فيه بيع ‏؟‏ بإسقاط من، فأتى الجواب غير مغير عن رفعه، والمرفوع مبتدأ أو اسم ليس و‏{‏فيه‏{‏ الخبر‏.‏ قال مكي‏:‏ والاختيار الرفع؛ لأن أكثر القراء عليه، ويجوز في غير القرآن لا بيع فيه ولا خلة، وأنشد سيبويه لرجل من مذحج‏:‏

هذا لعمركم الصغار بعينه لا أم لي إن كان ذاك ولا أب

ويجوز أن تبني الأول وتنصب الثاني وتنونه فتقول‏:‏ لا رجل فيه ولا امرأة، وأنشد سيبويه‏:‏

لا نسب اليوم ولا خلة اتسع الخرق على الراقع

ف ‏{‏لا‏{‏ زائدة في الموضعين، الأول عطف على الموضع والثاني على اللفظ ووجه خامس أن ترفع الأول وتبني الثاني كقولك‏:‏ لا رجل فيها ولا امرأة، قال أمية‏:‏

فلا لغو ولا تأثيم فيها وما فاهوا به أبدا مقيم

وهذه الخمسة الأوجه جائزة في قولك‏:‏ لا حول ولا قوة إلا بالله، وقد تقدم هذا والحمد لله‏.‏ ‏{‏والكافرون‏{‏ ابتداء‏.‏ ‏{‏هم‏{‏ ابتداء ثان، ‏{‏الظالمون‏{‏ خبر الثاني، وإن شئت كانت ‏{‏هم‏{‏ زائدة للفصل و‏{‏الظالمون‏{‏ خبر ‏{‏الكافرون‏{‏‏.‏ قال عطاء بن دينار‏:‏ والحمد لله الذي قال‏{‏والكافرون هم الظالمون‏{‏ ولم يقل والظالمون هم الكافرون‏.‏

 الآية رقم ‏(‏255‏)‏

‏{‏الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم له ما في السماوات وما في الأرض من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء وسع كرسيه السماوات والأرض ولا يؤوده حفظهما وهو العلي العظيم‏}‏

قوله تعالى‏{‏الله لا إله إلا هو الحي القيوم‏{‏ هذه آية الكرسي سيدة آي القرآن وأعظم آية، كما تقدم بيانه في الفاتحة، ونزلت ليلا ودعا النبي صلى الله عليه وسلم زيدا فكتبها‏.‏ روي عن محمد بن الحنفية أنه قال‏:‏ لما نزلت آية الكرسي خر كل صنم في الدنيا، وكذلك خر كل ملك في الدنيا وسقطت التيجان عن رؤوسهم، وهربت الشياطين يضرب بعضهم على بعض إلى أن أتوا إبليس فأخبروه بذلك فأمرهم أن يبحثوا عن ذلك، فجاؤوا إلى المدينة فبلغهم أن آية الكرسي قد نزلت‏.‏ وروى الأئمة عن أبي بن كعب قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏‏(‏يا أبا المنذر أتدري أي آية من كتاب الله معك أعظم‏)‏ ‏؟‏ قال قلت‏:‏ الله ورسوله أعلم، قال‏:‏ ‏(‏يا أبا المنذر أتدري أي آية من كتاب الله معك أعظم‏)‏ ‏؟‏ قال قلت‏{‏الله لا إله إلا هو الحي القيوم‏{‏ فضرب في صدري وقال‏:‏ ‏(‏ليهنك العلم يا أبا المنذر‏)‏‏.‏ زاد الترمذي الحكيم أبو عبدالله‏:‏ ‏(‏فوالذي نفسي بيده إن لهذه الآية للسانا وشفتين تقدس الملك عند ساق العرش‏)‏‏.‏ قال أبو عبدالله‏:‏ فهذه آية أنزلها الله جل ذكره، وجعل ثوابها لقارئها عاجلا وآجلا، فأما في العاجل فهي حارسة لمن قرأها من الآفات، وروي لنا عن نوف البكالي أنه قال‏:‏ آية الكرسي تدعى في التوراة ولية الله‏.‏ يريد يدعي قارئها في ملكوت السماوات والأرض عزيزا، قال‏:‏ فكان عبدالرحمن بن عوف إذا دخل بيته قرأ آية الكرسي في زوايا بيته الأربع، معناه كأنه يلتمس بذلك أن تكون له حارسا من جوانبه الأربع، وأن تنفي عنه الشيطان من زوايا بيته‏.‏ وروي عن عمر أنه صارع جنيا فصرعه عمر رضي الله عنه؛ فقال له الجني‏:‏ خل عني حتى أعلمك ما تمتنعون به منا، فخلى عنه وسأله فقال‏:‏ إنكم تمتنعون منا بآية الكرسي‏.‏

قلت‏:‏ هذا صحيح، وفي الخبر‏:‏ من قرأ الكرسي دبر كل صلاة كان الذي يتولى قبض روحه ذو الجلال والإكرام، وكان كمن قاتل مع أنبياء الله حتى يستشهد‏.‏ وعن علي رضي الله عنه قال‏:‏ سمعت نبيكم صلى الله عليه وسلم يقول وهو على أعواد المنبر‏:‏ ‏(‏من قرأ آية الكرسي دبر كل صلاة لم يمنعه من دخول الجنة إلا الموت ولا يواظب عليها إلا صديق أو عابد، ومن قرأها إذا أخذ مضجعه آمنه الله على نفسه وجاره وجار جاره والأبيات حوله‏)‏‏.‏ وفي البخاري عن أبي هريرة قال‏:‏ وكلني رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظ زكاة رمضان، وذكر قصة وفيها‏:‏ فقلت يا رسول الله، زعم أنه يعلمني كلمات ينفعني الله بها فخليت سبيله، قال‏:‏ ‏(‏ما هي‏)‏ ‏؟‏ قلت قال لي‏:‏ إذا آويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي من أولها حتى تختم ‏{‏الله لا إله إلا هو الحي القيوم‏{‏‏.‏ وقال لي‏:‏ لن يزال عليك من الله حافظ ولا يقربك شيطان حتى تصبح، وكانوا أحرص شيء على الخير‏.‏ فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أما إنه قد صدقك وهو كذوب تعلم من تخاطب منذ ثلاث ليال يا أبا هريرة‏)‏ ‏؟‏ قال‏:‏ لا؛ قال‏:‏ ‏(‏ذاك شيطان‏)‏‏.‏ وفي مسند الدارمي أبي محمد قال الشعبي قال عبدالله بن مسعود‏:‏ لقي رجل من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم رجلا من الجن فصارعه فصرعه الإنسي، فقال له الإنسي‏:‏ إني لأراك ضئيلا شخيتا كأن ذريعتيك ذريعتا كلب فكذلك أنتم معشر الجن، أم أنت من بينهم كذلك ‏؟‏ قال‏:‏ لا والله إني منهم لضليع ولكن عاودني الثانية فإن صرعتني علمتك شيئا ينفعك، قال نعم، فصرعه، قال‏:‏، تقرأ آية الكرسي‏{‏الله لا إله إلا هو الحي القيوم‏{‏‏؟‏ قال‏:‏ نعم؛ قال‏:‏ فإنك لا تقرأها في بيت إلا خرج منه الشيطان له خبج كخبج الحمار ثم لا يدخله حتى يصبح‏.‏ أخرجه أبو نعيم عن أبي عاصم الثقفي عن الشعبي‏.‏ وذكره أبو عبيدة في غريب حديث عمر حدثناه أبو معاوية عن أبي عاصم الثقفي عن الشعبي عن عبدالله قال‏:‏ فقيل لعبدالله‏:‏ أهو عمر ‏؟‏ فقال‏:‏ ما عسى أن يكون إلا عمر‏.‏ قال أبو محمد الدارمي‏:‏ الضئيل‏:‏ الدقيق، والشخيت‏:‏ المهزول، والضليع‏:‏ جيد الأضلاع، والخبج‏:‏ الريح‏.‏ وقال أبو عبيدة‏:‏ الخبج‏:‏ الضراط، وهو الحبج أيضا بالحاء‏.‏ وفي الترمذي عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من قرأ حم - المؤمن - إلى إليه المصير وآية الكرسي حين يصبح حفظ بهما حتى يمسي، ومن قرأهما حين يمسي حفظ بهما حتى يصبح‏)‏ قال‏:‏ حديث غريب‏.‏ وقال أبو عبدالله الترمذي الحكيم‏:‏ وروى أن المؤمنين ندبوا إلى المحافظة على قراءتها دبر كل صلاة‏.‏ عن أنس رفع الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏أوحى الله إلى موسى عليه السلام من داوم على قراءة آية الكرسي دبر كل صلاة أعطيته فوق ما أعطي الشاكرين وأجر النبيين وأعمال الصديقين وبسطت عليه يميني بالرحمة ولم يمنعه أن أدخله الجنة إلا أن يأتيه ملك الموت‏)‏ قال موسى عليه السلام‏:‏ يا رب من سمع بهذا لا يداوم عليه‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏إني لا أعطيه من عبادي إلا لنبي أو صديق أو رجل أحبه أو رجل أريد قتله في سبيلي‏)‏‏.‏ وعن أبي بن كعب قال‏:‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏(‏يا موسى من قرأ آية الكرسي في دبر كل صلاة أعطيته ثواب الأنبياء‏)‏ قال أبو عبدالله‏:‏ معناه عندي أعطيته ثواب عمل الأنبياء، فأما ثواب النبوة فليس لأحد إلا للأنبياء‏.‏ وهذه الآية تضمنت التوحيد والصفات العلا، وهي خمسون كلمة، وفي كل كلمة خمسون بركة، وهي تعدل ثلث القرآن، ورد بذلك الحديث، ذكره ابن عطية‏.‏ و‏{‏الله‏{‏ مبتدأ، و‏{‏لا إله‏{‏ مبتدأ ثان وخبره محذوف تقديره معبود أو موجود‏.‏ و‏{‏إلا هو‏{‏ بدل من موضع لا إله‏.‏ وقيل‏{‏الله لا إله إلا هو‏{‏ ابتداء وخبر، وهو مرفوع محمول على المعنى، أي ما إله إلا هو، ويجوز في غير القرآن لا إله إلا إياه، نصب على الاستثناء‏.‏ قال أبو ذر في حديثه الطويل‏:‏ سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أي آية أنزل الله عليك من القرآن أعظم ‏؟‏ فقال‏:‏ ‏(‏الله لا إله إلا هو الحي القيوم‏)‏‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ أشرف آية في القرآن آية الكرسي‏.‏ قال بعض العلماء‏:‏ لأنه يكرر فيها اسم الله تعالى بين مضمر وظاهر ثماني عشرة مرة‏.‏

قوله‏{‏الحي القيوم‏{‏ نعت لله عز وجل، وإن شئت كان بدلا من ‏{‏هو‏{‏، وإن شئت كان خبرا بعد خبر، وإن شئت على إضمار مبتدأ‏.‏ ويجوز في غير القرآن النصب على المدح‏.‏ و‏{‏الحي‏{‏ اسم من أسمائه الحسنى يسمى به، ويقال‏:‏ إنه اسم الله تعالى الأعظم‏.‏ ويقال‏:‏ إن عيسى ابن مريم عليه السلام كان إذا أراد أن يحيي الموتى يدعو بهذا الدعاء‏:‏ يا حي يا قيوم‏.‏ ويقال‏:‏ إن آصف بن برخيا لما أراد أن يأتي بعرش بلقيس إلى سليمان دعا بقوله يا حي يا قيوم‏.‏ ويقال‏:‏ إن بني إسرائيل سألوا موسى عن اسم الله الأعظم فقال لهم‏:‏ أيا هيا شرا هيا، يعني يا حي يا قيوم‏.‏ ويقال‏:‏ هو دعاء أهل البحر إذا خافوا الغرق يدعون به‏.‏ قال الطبري عن قوم‏:‏ إنه يقال حي قيوم كما وصف نفسه، ويسلم ذلك دون أن ينظر فيه‏.‏ وقيل‏:‏ سمى نفسه حيا لصرفه الأمور مصاريفها وتقديره الأشياء مقاديرها‏.‏ وقال قتادة‏:‏ الحي الذي لا يموت‏.‏ وقال السدي‏:‏ المراد بالحي الباقي‏.‏ قال لبيد‏:‏

فإما تريني اليوم أصبحت سالما فلست بأحيا من كلاب وجعفر

وقد قيل‏:‏ إن هذا الاسم هو اسم الله الأعظم‏.‏ ‏{‏القيوم‏{‏ من قام؛ أي القائم بتدبير ما خلق؛ عن قتادة‏.‏ وقال الحسن‏:‏ معناه القائم على كل نفس بما كسبت حتى يجازيها بعملها، من حيث هو عالم بها لا يخفى عليه شيء منها‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ معناه الذي لا يحول ولا يزول؛ قال أمية بن أبي الصلت‏:‏

لم تخلق السماء والنجوم والشمس معها قمر يقوم

قدره مهيمن قيوم والحشر والجنة والنعيم

إلا لأمر شأنه عظيم

قال البيهقي‏:‏ ورأيت في ‏{‏عيون التفسير‏{‏ لإسماعيل الضرير تفسير القيوم قال‏:‏ ويقال هو الذي لا ينام؛ وكأنه أخذه من قوله عز وجل عقيبه في آية الكرسي‏{‏لا تأخذه سنة ولا نوم‏{‏‏.‏ وقال الكلبي‏:‏ القيوم الذي لا بدئ له؛ ذكره أبو بكر الأنباري‏.‏ وأصل قيوم قيووم اجتمعت الواو والياء وسبقت إحداهما بالسكون فأدغمت الأولى في الثانية بعد قلب الواو ياء؛ ولا يكون قيوم فعولا؛ لأنه من الواو فكان يكون قيووما‏.‏ وقرأ ابن مسعود وعلقمة والأعمش والنخعي ‏{‏الحي القيام‏{‏ بالألف، وروي ذلك عن عمر‏.‏ ولا خلاف بين أهل اللغة في أن القيوم أعرف عند العرب وأصح بناء وأثبت علة‏.‏ والقيام منقول عن القوام إلى القيام، صرف عن الفعال إلى الفيعال، كما قيل للصواغ الصياغ؛ قال الشاعر‏:‏

إن ذا العرش للذي يرزق النا س وحي عليهم قيوم

ثم نفى عز وجل أن تأخذه سنة ولا نوم‏.‏ والسنة‏:‏ النعاس في قول الجميع‏.‏ والنعاس ما كان من العين فإذا صار في القلب صار نوما؛ قال عدي بن الرقاع يصف امرأة بفتور النظر‏:‏

وسنان أقصده النعاس فرنقت في عينه سنة وليس بنائم

وفرق المفضل بينهما فقال‏:‏ السنة من الرأس، والنعاس في العين، والنوم في القلب‏.‏ وقال ابن زيد‏:‏ الوسنان الذي يقوم من النوم وهو لا يعقل، حتى ربما جرد السيف على أهله‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وهذا الذي قاله ابن زيد فيه نظر، وليس ذلك بمفهوم من كلام العرب‏.‏ وقال السدي‏:‏ السنة‏:‏ ريح النوم الذي يأخذ في الوجه فينعس الإنسان‏.‏

قلت‏:‏ وبالجملة فهو فتور يعتري الإنسان ولا يفقد معه عقله‏.‏ والمراد بهذه الآية أن الله تعالى لا يدركه خلل ولا يلحقه ملل بحال من الأحوال‏.‏ والأصل في سِنَة وسْنَة حذفت الواو كما حذفت من يسن‏.‏ والنوم هو المستثقل الذي يزول معه الذهن في حق البشر‏.‏ والواو للعطف و‏{‏لا‏{‏ توكيد‏.‏

قلت‏:‏ والناس يذكرون في هذا الباب عن أبي هريرة قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يحكي عن موسى على المنبر قال‏:‏ ‏(‏وقع في نفس موسى هل ينام الله جل ثناؤه فأرسل الله إليه ملكا فأرقه ثلاثا ثم أعطاه قارورتين في كله يد قارورة وأمره أن يحتفظ بهما قال فجعل ينام وتكاد يداه تلتقيان ثم يستيقظ فينحي أحداهما عن الأخرى حتى نام نومة فاصطفقت يداه فانكسرت القارورتان - قال - ضرب الله له مثلا أن لو كان ينام لم تمتسك السماء والأرض‏)‏ ولا يصح هذا الحديث، ضعفه غير واحد منهم البيهقي

قوله تعالى‏{‏له ما في السماوات وما في الأرض‏{‏ أي بالملك فهو مالك الجميع وربه وجاءت العبارة بـ ‏{‏ما‏{‏ وإن كان في الجملة من يعقل من حيث المراد الجملة والموجود‏.‏ قال الطبري‏:‏ نزلت هذه الآية لما قال الكفار‏:‏ ما نعبد أوثانا إلا ليقربونا إلى الله زلفى‏.‏

قوله تعالى‏{‏من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه‏{‏ ‏{‏من‏{‏ رفع بالابتداء و‏{‏ذا‏{‏ خبره؛ و‏{‏الذي‏{‏ نعت لـ ‏{‏ذا‏{‏، وإن شئت بدل، ولا يجوز أن تكون ‏{‏ذا‏{‏ زائدة كما زيدت مع ‏{‏ما‏{‏ لأن ‏{‏ما‏{‏ مبهمة فزيدت ‏{‏ذا‏{‏ معها لشبهها بها‏.‏ وتقرر في هذه الآية أن الله يأذن لمن يشاء في الشفاعة، وهم الأنبياء والعلماء والمجاهدون والملائكة وغيرهم ممن أكرمهم وشرفهم الله، ثم لا يشفعون إلا لمن ارتضى؛ كما قال‏{‏ولا يشفعون إلا لمن ارتضى‏}‏الأنبياء‏:‏ 28‏]‏ قال ابن عطية‏:‏ والذي يظهر أن العلماء والصالحين يشفعون فيمن لم يصل إلى النار وهو بين المنزلتين، أو وصل ولكن له أعماله صالحة‏.‏ وفي البخاري في ‏{‏باب بقية من أبواب الرؤية‏{‏‏:‏ إن المؤمنين يقولون‏:‏ ربنا إن إخواننا كانوا يصلون معنا ويصومون معنا‏.‏ وهذه شفاعة فيمن يقرب أمره، وكما يشفع الطفل المحبنطئ على باب الجنة‏.‏ وهذا إنما هو في قراباتهم ومعارفهم‏.‏ وإن الأنبياء يشفعون فيمن حصل في النار من عصاة أممهم بذنوب دون قربى ولا معرفة إلا بنفس الإيمان، ثم تبقى شفاعة أرحم الراحمين في المستغرقين في الخطايا والذنوب الذين لم تعمل فيهم شفاعة الأنبياء‏.‏ وأما شفاعة محمد صلى الله عليه وسلم في تعجيل الحساب فخاصة له‏.‏

قلت‏:‏ قد بين مسلم في صحيحه كيفية الشفاعة بيانا شافيا، وكأنه رحمه الله لم يقرأه وأن الشافعين يدخلون النار ويخرجون منها أناسا استوجبوا العذاب؛ فعلى هذا لا يبعد أن يكون للمؤمنين شفاعتان‏:‏ شفاعة فيمن لم يصل إلى النار، وشفاعة فيمن وصل إليها ودخلها؛ أجارنا الله منها‏.‏ فذكر من حديث أبي سعيد الخدري‏:‏ ‏(‏ثم يضرب الجسر على جهنم وتحل الشفاعة ويقولون اللهم سلم سلم - قيل‏:‏ يا رسول الله وما الجسر ‏؟‏ قال‏:‏ دحض مزلة فيها خطاطيف وكلاليب وحسكة تكون بنجد فيها شويكة يقال لها السعدان فيمر المؤمنون كطرف العين وكالبرق وكالريح وكالطير وكأجاويد الخيل والركاب فناج مسلم ومخدوش مرسل ومكدوس في نار جهنم حتى إذا خلص المؤمنون من النار فوالذي نفسي بيده ما من أحد منكم بأشد مناشدة لله في استيفاء الحق من المؤمنين لله يوم القيامة لإخوانهم الذين في النار، يقولون ربنا كانوا يصومون معنا ويصلون ويحجون، فيقال لهم أخرجوا من عرفتم، فتحرم صورهم على النار فيخرجون خلقا كثيرا قد أخذت النار إلى نصف ساقيه وإلى ركبتيه ثم يقولون ربنا ما بقي فيها أحد ممن أمرتنا به، فيقول عز وجل ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال دينار من خير فأخرجوه، فيخرجون خلقا كثيرا، ثم يقولون ربنا لم نذر فيها أحدا ممن أمرتنا به، ثم يقول ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال نصف دينار من خير فأخرجوه، فيخرجون خلقا كثيرا ثم يقولون ربنا لم نذر فيها أحدا ممن أمرتنا به، ثم يقول ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال ذرة من خير فأخرجوه، فيخرجون خلقا كثيرا ثم يقولون ربنا لم نذر فيها خيرا - وكان أبو سعيد يقول‏:‏ إن لم تصدقوني بهذا الحديث فاقرؤوا إن شئتم ‏{‏إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما‏}‏النساء‏:‏ 40‏]‏ ‏(‏فيقول الله تعالى‏:‏ شفعت الملائكة وشفع النبيون وشفع المؤمنون ولم يبق إلا أرحم الراحمين فيقبض قبضة من النار فيخرج منها قوما لم يعملوا خيرا قط قد عادوا حمما‏)‏ وذكر الحديث‏.‏ وذكر من حديث أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏فأقول يا رب ائذن لي فيمن قال لا إله إلا الله قال ليس ذلك لك - أو قال ليس ذلك إليك - وعزتي وكبريائي وعظمتي وجبريائي لأخرجن من قال لا إله إلا الله‏)‏‏.‏ وذكر من حديث أبي هريرة عنه صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏حتى إذا فرغ الله من القضاء بين العباد وأراد أن يخرج برحمته من أراد من أهل النار أمر الملائكة أن يخرجوا من النار من كان لا يشرك بالله شيئا ممن أراد الله تعالى أن يرحمه ممن يقول لا إله إلا الله فيعرفونهم في النار يعرفونهم بأثر السجود تأكل النار ابن آدم إلا أثر السجود حرم الله على النار أن تأكل أثر السجود‏)‏ الحديث بطوله‏.‏

قلت‏:‏ فدلت هذه الأحاديث على أن شفاعة المؤمنين وغيرهم إنما هي لمن دخل النار وحصل فيها، أجارنا الله منها وقول ابن عطية‏{‏ممن لم يصل أو وصل‏{‏ يحتمل أن يكون أخذه من أحاديث أخر، والله أعلم‏.‏ وقد خرج ابن ماجة في سننه عن أنس بن مالك قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏يصف الناس يوم القيامة صفوفا - وقال ابن نمير أهل الجنة - فيمر الرجل من أهل النار على الرجل فيقول يا فلان أما تذكر يوم استسقيت فسقيتك شربة ‏؟‏ قال فيشفع له ويمر الرجل على الرجل فيقول أما تذكر يوم ناولتك طهورا ‏؟‏ فيشفع له - قال ابن نمير - ويقول يا فلان أما تذكر يوم بعثتني لحاجة كذا وكذا فذهبت لك ‏؟‏ فيشفع له‏)‏‏.‏

وأما شفاعات نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فاختلف فيها؛ فقيل ثلاث، وقيل اثنتان، وقيل‏:‏ خمس، يأتي بيانها في ‏{‏سبحان‏{‏ إن شاء الله تعالى‏.‏ وقد أتينا عليها في كتاب ‏{‏التذكرة‏{‏ والحمد لله‏.‏

قوله تعالى‏{‏يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم‏{‏ الضميران عائدان على كل من يعقل ممن تضمنه قوله‏{‏له ما في السماوات وما في الأرض ‏{‏‏.‏ وقال مجاهد‏{‏ما بين أيديهم‏{‏ الدنيا ‏{‏وما خلفهم‏{‏ الآخرة‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وكل هذا صحيح في نفسه لا بأس به؛ لأن ما بين اليد هو كل ما تقدم الإنسان، وما خلفه هو كل ما يأتي بعده؛ وبنحو قول مجاهد قال السدي وغيره‏.‏

قوله تعالى‏{‏ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء‏{‏ العلم هنا بمعنى المعلوم، أي ولا يحيطون بشيء من معلوماته؛ وهذا كقول الخضر لموسى عليه السلام حين نقر العصفور في البحر‏:‏ ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلا كما نقص هذا العصفور من هذا البحر‏.‏ فهذا وما شاكله راجع إلى المعلومات؛ لأن علم الله سبحانه وتعالى الذي هو صفة ذاته لا يتبعض‏.‏ ومعنى الآية لا معلوم لأحد إلا ما شاء الله أن يعلمه‏.‏

قوله تعالى‏{‏وسع كرسيه السماوات والأرض‏{‏ ذكر ابن عساكر في تاريخه عن علي رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏الكرسي لؤلؤة والقلم لؤلؤة وطول القلم سبعمائة سنة وطول الكرسي حيث لا يعلمه إلا الله‏)‏‏.‏ وروى حماد بن سلمة عن عاصم بن بهدلة - وهو عاصم بن أبي النجود - عن زر بن حبيش عن ابن مسعود قال‏:‏ بين كل سماءين مسيرة خمسمائة عام وبين السماء السابعة وبين الكرسي خمسمائة عام، وبين الكرسي وبين العرش مسيرة خمسمائة عام، والعرش فوق الماء والله فوق العرش يعلم ما أنتم فيه وعليه‏.‏ يقال كُرسي وكرسي والجمع الكراسي‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ كرسيه علمه‏.‏ ورجحه الطبري، قال‏:‏ ومنه الكراسة التي تضم العلم؛ ومنه قيل للعلماء‏:‏ الكراسي؛ لأنهم المعتمد عليهم؛ كما يقال‏:‏ أوتاد الأرض‏.‏

قال الشاعر‏:‏

يحف بهم بيض الوجوه وعصبة كراسي بالأحداث حين تنوب

أي علماء بحوادث الأمور‏.‏ وقيل‏:‏ كرسيه قدرته التي يمسك بها السماوات والأرض، كما تقول‏:‏ اجعل لهذا الحائط كرسيا، أي ما يعمده‏.‏ وهذا قريب من قول ابن عباس في قوله ‏{‏وسع كرسيه‏{‏‏.‏ قال البيهقي‏:‏ وروينا عن ابن مسعود وسعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله ‏{‏وسع كرسيه‏{‏ قال‏:‏ علمه‏.‏ وسائر الروايات عن ابن عباس وغيره تدل على أن المراد به الكرسي المشهور مع العرش‏.‏ وروى إسرائيل عن السدي عن أبي مالك في قوله ‏{‏وسع كرسيه السماوات والأرض‏{‏ قال‏:‏ إن الصخرة التي عليها الأرض السابعة ومنتهى الخلق على أرجائها، عليها أربعة من الملائكة لكل واحد منهم أربعة وجوه‏:‏ وجه إنسان ووجه أسد ووجه ثور ووجه نسر؛ فهم قيام عليها قد أحاطوا بالأرضين والسماوات، ورؤوسهم تحت الكرسي والكرسي تحت العرش والله واضع كرسيه فوق العرش‏.‏ قال البيهقي‏:‏ في هذا إشارة إلى كرسيين‏:‏ أحدهما تحت العرش، والآخر موضوع على العرش‏.‏ وفي رواية أسباط عن السدي عن أبي مالك، وعن أبي صالح عن ابن عباس، وعن مرة الهمداني عن ابن عباس، وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود عن ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله ‏{‏وسع كرسيه السماوات والأرض‏{‏ فإن السماوات والأرض في جوف الكرسي والكرسي بين يدي العرش‏.‏ وأرباب الإلحاد يحملونها على عظم الملك وجلالة السلطان، وينكرون وجود العرش والكرسي وليس بشيء‏.‏ وأهل الحق يجيزونهما؛ إذ في قدرة الله متسع فيجب الإيمان بذلك‏.‏ قال أبو موسى الأشعري‏:‏ الكرسي موضع القدمين وله أطيط كأطيط الرحل‏.‏ قال البيهقي‏:‏ قد روينا أيضا في هذا عن ابن عباس وذكرنا أن معناه فيما يرى أنه موضوع من العرش موضع القدمين من السرير، وليس فيه إثبات المكان لله تعالى‏.‏ وعن ابن بريدة عن أبيه قال‏:‏ لما قدم جعفر من الحبشة قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ما أعجب شيء رأيته‏)‏ ‏؟‏ قال‏:‏ رأيت امرأة على رأسها مكتل طعام فمر فارس فأذراه فقعدت تجمع طعامها، ثم التفتت إليه فقالت له‏:‏ ويل لك يوم يضع الملك كرسيه فيأخذ للمظلوم من الظالم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم تصديقا لقولها‏:‏ ‏(‏لا قدست أمة - أو كيف تقدس أمة - لا يأخذ ضعيفها حقه من شديدها‏)‏‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ في قول أبي موسى ‏{‏الكرسي موضع القدمين‏{‏ يريد هو من عرش الرحمن كموضع القدمين من أسرة الملوك، فهو مخلوق عظيم بين يدي العرش نسبته إليه كنسبة الكرسي إلى سرير الملك‏.‏ وقال الحسن بن أبي الحسن‏:‏ الكرسي هو العرش نفسه؛ وهذا ليس بمرضي، والذي تقتضيه الأحاديث أن الكرسي مخلوق بين يدي العرش والعرش أعظم منه‏.‏ وروى أبو إدريس الخولاني عن أبي ذر قال‏:‏ قلت يا رسول الله، أي ما أنزل عليك أعظم ‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏آية الكرسي - ثم قال - يا أبا ذر ما السماوات السبع مع الكرسي إلا كحلقة ملقاة في أرض فلاة وفضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على الحلقة‏)‏‏.‏ أخرجه الآجري وأبو حاتم البستي في صحيح مسنده والبيهقي وذكر أنه صحيح‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ ما السماوات والأرض في الكرسي إلا بمنزلة حلقة ملقاة في أرض فلاة‏.‏ وهذه الآية منبئة عن عظم مخلوقات الله تعالى، ويستفاد من ذلك عظم قدرة الله عز وجل إذ لا يؤده حفظ هذا الأمر العظيم‏.‏

و ‏{‏يؤوده‏{‏ معناه يثقله؛ يقال‏:‏ آدني الشيء بمعنى أثقلني وتحملت منه المشقة، وبهذا فسر اللفظة ابن عباس والحسن وقتادة وغيرهم‏.‏ قال الزجاج‏:‏ فجائز أن تكون الهاء لله عز وجل، وجائز أن تكون للكرسي؛ وإذا كانت للكرسي؛ فهو من أمر الله تعالى‏.‏ و‏{‏العلي‏{‏ يراد به علو القدر والمنزلة لا علو المكان؛ لأن الله منزه عن التحيز‏.‏ وحكى الطبري عن قوم أنهم قالوا‏:‏ هو العلي عن خلقه بارتفاع مكانه عن أماكن خلقه‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وهذا قول جهلة مجسمين، وكان الوجه ألا يحكى‏.‏ وعن عبدالرحمن بن قرط أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به سمع تسبيحا في السماوات العلى‏:‏ سبحان الله العلي الأعلى سبحانه وتعالى‏.‏ والعلي والعالي‏:‏ القاهر الغالب للأشياء؛ تقول العرب‏:‏ علا فلان فلانا أي غلبه وقهره؛ قال الشاعر‏:‏

فلما علونا واستوينا عليهم تركناهم صرعى لنسر وكاسر

ومنه قوله تعالى‏{‏إن فرعون علا في الأرض‏}‏القصص‏:‏ 4‏]‏‏.‏ و‏{‏العظيم‏{‏ صفة بمعنى عظيم القدر والخطر والشرف، لا على معنى عظم الأجرام‏.‏ وحكى الطبري عن قوم أن العظيم معناه المعظم، كما يقال‏:‏ العتيق بمعنى المعتق، وأنشد بيت الأعشى‏:‏

فكأن الخمر العتيق من الإسـ ـفنط ممزوجة بماء زلال

وحكي عن قوم أنهم أنكروا ذلك وقالوا‏:‏ لو كان بمعنى معظم لوجب ألا يكون عظيما قبل أن يخلق الخلق وبعد فنائهم؛ إذ لا معظم له حينئذ‏.‏

 الآية رقم ‏(‏256‏)‏

‏{‏لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم‏}‏

قوله تعالى‏{‏لا إكراه في الدين‏{‏ الدين في هذه الآية المعتقد والملة بقرينة قوله‏{‏قد تبين الرشد من الغي‏{‏‏.‏ والإكراه الذي في الأحكام من الإيمان والبيوع والهبات وغيرها ليس هذا موضعه، وإنما يجيء في تفسير قوله‏{‏إلا من أكره‏}‏النحل‏:‏ 106‏]‏‏.‏ وقرأ أبو عبدالرحمن ‏{‏قد تبين الرشد من الغي‏{‏ وكذا روي عن الحسن والشعبي؛ يقال‏:‏ رَشَد يَرْشُد رُشْداً، ورَشِدَ يرْشَد رَشَدا‏:‏ إذا بلغ ما يحب‏.‏ وغوى ضده؛ عن النحاس‏.‏ وحكى ابن عطية عن أبي عبدالرحمن السلمي أنه قرأ ‏{‏الرشاد‏{‏ بالألف‏.‏ وروي عن الحسن أيضا ‏{‏الرشد‏{‏ بضم الراء والشين‏.‏ ‏{‏الغي‏{‏ مصدر من غوى يغوي إذا ضل في معتقد أو رأي؛ ولا يقال الغي في الضلال على الإطلاق‏.‏

 اختلف العلماء في معنى هذه الآية على ستة أقوال‏:‏

 الأول‏:‏ قيل إنها منسوخة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد أكره العرب على دين الإسلام وقاتلهم ولم يرض منهم إلا بالإسلام؛ قاله سليمان بن موسى، قال‏:‏ نسختها ‏{‏يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين‏}‏التوبة‏:‏ 73‏]‏‏.‏ وروي هذا عن ابن مسعود وكثير من المفسرين‏.‏

 الثاني‏:‏ ليست بمنسوخة وإنما نزلت في أهل الكتاب خاصة، وأنهم لا يكرهون على الإسلام إذا أدوا الجزية، والذين يكرهون أهل الأوثان فلا يقبل منهم إلا الإسلام فهم الذين نزل فيهم ‏{‏يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين‏{‏‏.‏ هذا قول الشعبي وقتادة والحسن والضحاك‏.‏ والحجة لهذا القول ما رواه زيد بن أسلم عن أبيه قال‏:‏ سمعت عمر بن الخطاب يقول لعجوز نصرانية‏:‏ اسلمي أيتها العجوز تسلمي، إن الله بعث محمدا بالحق‏.‏ قالت‏:‏ أنا عجوز كبيرة والموت إلي قريب فقال عمر‏:‏ اللهم اشهد، وتلا ‏{‏لا إكراه في الدين‏{‏‏.‏

 الثالث‏:‏ ما رواه أبو داود عن ابن عباس قال‏:‏ نزلت هذه في الأنصار، كانت تكون المرأة مقلاتا فتجعل على نفسها إن عاش لها ولد أن تهوده؛ فلما أجليت بنو النضير كان فيهم كثير من أبناء الأنصار فقالوا‏:‏ لا ندع أبناءنا فأنزل الله تعالى‏{‏لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي‏{‏‏.‏ قال أبو داود‏:‏ والمقلات التي لا يعيش لها ولد‏.‏ في رواية‏:‏ إنما فعلنا ما فعلنا ونحن نرى أن دينهم أفضل مما نحن عليه، وأما إذا جاء الله بالإسلام فنكرههم عليه فنزلت‏{‏لا إكراه في الدين‏{‏ من شاء التحق بهم ومن شاء دخل في الإسلام‏.‏ وهذا قول سعيد بن جبير والشعبي ومجاهد إلا أنه قال‏:‏ كان سبب كونهم في بني النضير الاسترضاع‏.‏ قال النحاس‏:‏ قول ابن عباس في هذه الآية أولى الأقوال لصحة إسناده، وأن مثله لا يؤخذ بالرأي‏.‏

 الرابع‏:‏ قال السدي‏:‏ نزلت الآية في رجل من الأنصار يقال له أبو حصين كان له ابنان، فقدم تجار من الشام إلى المدينة يحملون الزيت، فلما أرادوا الخروج أتاهم ابنا الحصين فدعوهما إلى النصرانية فتنصرا ومضيا معهم إلى الشام، فأتى أبوهما رسول الله صلى الله عليه وسلم مشتكيا أمرهما، ورغب في أن يبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم من يردهما فنزلت‏{‏لا إكراه في الدين‏{‏ ولم يؤمر يومئذ بقتال أهل الكتاب، وقال‏:‏ ‏(‏أبعدهما الله هما أول من كفر‏)‏ فوجد أبو الحصين في نفسه على النبي صلى الله عليه وسلم حين لم يبعث في طلبهما فأنزل الله جل ثناؤه ‏{‏فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم‏}‏النساء‏:‏ 65‏]‏ الآية ثم إنه نسخ ‏{‏لا إكراه في الدين‏{‏ فأمر بقتال أهل الكتاب في سورة ‏[‏براءة‏]‏‏.‏ والصحيح في سبب قوله تعالى‏{‏فلا وربك لا يؤمنون‏{‏ حديث الزبير مع جاره الأنصاري في السقي، على ما يأتي في ‏{‏النساء‏{‏ بيانه إن شاء الله تعالى‏.‏

وقيل ‏:‏ معناها لا تقولوا لمن أسلم تحت السيف مجبرا مكرها؛ وهو  القول الخامس‏.‏

 وقول سادس‏:‏ وهو أنها وردت في السبي متى كانوا من أهل الكتاب لم يجبروا إذا كانوا كبارا، وإن كانوا مجوسا صغارا أو كبارا أو وثنيين فإنهم يجبرون على الإسلام؛ لأن من سباهم لا ينتفع بهم مع كونهم وثنيين؛ ألا ترى أنه لا تؤكل ذبائحهم ولا توطأ نساؤهم، ويدينون بأكل الميتة

والنجاسات وغيرهما، ويستقذرهم المالك لهم ويتعذر عليه الانتفاع بهم من جهة الملك فجاز له الإجبار‏.‏ ونحو هذا‏"‏روى ابن القاسم عن مالك‏.‏ وأما أشهب فإنه قال‏:‏ هم على دين من سباهم، فإذا امتنعوا أجبروا على الإسلام، والصغار لا دين لهم فلذلك فأجبروا على الدخول في دين الإسلام لئلا يذهبوا إلى دين باطل‏.‏ فأما سائر أنواع الكفر متى بذلوا الجزية لم نكرههم على الإسلام سواء كانوا عربا أم عجما قريشا أو غيرهم‏.‏ وسيأتي بيان هذا وما للعلماء في الجزية ومن تقبل منه في ‏{‏براءة‏{‏ إن شاء الله تعالى‏.‏

قوله تعالى‏{‏فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله‏{‏ جزم بالشرط‏.‏ والطاغوت مؤنثة من طغى يطغى‏.‏ - وحكى الطبري يطغو - إذا جاوز الحد بزيادة عليه‏.‏ ووزنه فعلوت، ومذهب سيبويه أنه اسم مذكر مفرد كأنه اسم جنس يقع للقليل والكثير‏.‏ ومذهب أبي علي أنه مصدر كرهبوت وجبروت، وهو يوصف به الواحد والجمع، وقلبت لامه إلى موضع العين وعينه موضع اللام كجَبَذ وجَذَب، فقلبت الواو ألفاً لتحركها وتحرك ما قبلها فقيل طاغوت؛ واختار هذا القول النحاس‏.‏ وقيل‏:‏ أصل طاغوت في اللغة مأخوذة من الطغيان يؤدي معناه من غير اشتقاق، كما قيل‏:‏ لآل من اللؤلؤ‏.‏ وقال المبرد‏:‏ هو جمع‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ وذلك مردود‏.‏ قال الجوهري‏:‏ والطاغوت الكاهن والشيطان وكل رأس في الضلال، وقد يكون واحداً قال الله تعالى‏{‏يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به‏}‏النساء‏:‏ 60‏]‏‏.‏ وقد يكون جمعا قال الله تعالى‏{‏أولياؤهم الطاغوت‏}‏البقرة 257‏]‏ والجمع الطواغيت‏.‏ ‏{‏ويؤمن بالله‏{‏ عطف‏.‏ ‏{‏فقد استمسك بالعروة الوثقى‏{‏ جواب الشرط، وجمع الوُثْقى الوُثْق مثل الفُضْلى والفُضْل؛ فالوثقى فعلى من الوثاقة، وهذه الآية تشبيه‏.‏ واختلف عبارة المفسرين في الشيء المشبه به؛ فقال مجاهد‏:‏ العروة الإيمان‏.‏ وقال السدي‏:‏ الإسلام‏.‏ وقال ابن عباس وسعيد بن جبير والضحاك؛ لا إله إلا الله؛ وهذه عبارات ترجع إلى معنىً واحد‏.‏ ثم قال‏{‏لا انفصام لها‏{‏ قال مجاهد‏:‏ أي لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، أي لا يزيل عنهم اسم الإيمان حتى يكفروا‏.‏ والانفصام‏:‏ الانكسار من غير بينونة‏.‏ والقصم‏:‏ كسر ببينونة؛ وفي صحيح الحديث ‏(‏فيفصم عنه الوحي وإن جبينه ليتفصد عرقا‏)‏ أي يقلع‏.‏ قال الجوهري‏:‏ فصم الشيء كسره من غير أن يبين، تقول‏:‏ فصمته فانفصم؛ قال الله تعالى‏:‏ لا انفصام لها‏{‏ وتفصم مثله؛ قال ذو الرمة يذكر غزالا يشبهه بدُمْلُج فضة‏:‏

كأنه دملج من فضة نبه في ملعب من جواري الحي مفصوم

وإنما جعله مفصوما لتثنيه وانحنائه إذا نام‏.‏ ولم يقل ‏{‏مقصوم‏{‏ بالقاف فيكون بائنا باثنين‏.‏ وافْصم المطر‏:‏ أقلع‏.‏ وأفصمت عنه الحمى‏.‏ ولما كان الكفر بالطاغوت والإيمان بالله مما ينطق به اللسان ويعتقده القلب حسن في الصفات ‏{‏سميع‏{‏ من أجل النطق ‏{‏عليم‏{‏ من أجل المعتقد‏.‏

 الآية رقم ‏(‏257‏)‏

‏{‏الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون‏}‏

قوله تعالى‏{‏الله ولي الذين آمنوا‏{‏ الولي فعيل بمعنى فاعل‏.‏ قال الخطابي‏:‏ الولي الناصر ينصر عباده المؤمنين؛ قال الله عز وجل ‏{‏الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور‏{‏، وقال ‏{‏ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا وأن الكافرين لا مولى لهم‏}‏محمد‏:‏ 11‏]‏ قال قتادة‏:‏ الظلمات الضلالة، والنور الهدى، وبمعناه قال الضحاك والربيع‏.‏ وقال مجاهد وعبدة بن أبي لبابة‏:‏ قوله ‏{‏الله ولي الذين آمنوا‏{‏ نزلت في قوم آمنوا بعيسى فلما جاء محمد صلى الله عليه وسلم كفروا به، فذلك إخراجهم من النور إلى الظلمات‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ فكأن هذا المعتقد أحرز نوراً في المعتقد خرج منه إلى الظلمات، ولفظ الآية مستغن عن هذا التخصيص، بل هو مترتب في كل أمة كافرة آمن بعضها كالعرب، وذلك أن من آمن منهم فالله وليه أخرجه من ظلمة الكفر إلى نور الإيمان، ومن كفر بعد وجود النبي صلى الله عليه وسلم الداعي المرسل فشيطانه مغويه، كأنه أخرجه من الإيمان إذ هو معه معد وأهل للدخول فيه، وحكم عليهم بالدخول في النار لكفرهم؛ عدلا منه، لا يسأل عما يفعل‏.‏ وقرأ الحسن ‏{‏أولياؤهم الطواغيت‏{‏ يعني الشياطين، والله أعلم‏.‏

 الآية رقم ‏(‏258‏)‏

‏{‏ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك إذ قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت قال أنا أحيي وأميت قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر والله لا يهدي القوم الظالمين‏}‏

قوله تعالى‏{‏ألم تر‏{‏ هذه ألف التوقيف، وفي الكلام معنى التعجب، أي اعجبوا له‏.‏ وقال الفراء‏{‏ألم تر‏{‏ بمعنى هل رأيت، أي هل رأيت الذي حاج إبراهيم، وهل رأيت الذي مر على قرية، وهو النمروذ بن كوش بن كنعان بن سام بن نوح ملك زمانه وصاحب النار والبعوضة هذا قول ابن عباس ومجاهد وقتادة والربيع والسدي وابن إسحاق وزيد بن أسلم وغيرهم‏.‏ وكان إهلاكه لما قصد المحاربة مع الله تعالى بأن فتح الله تعالى عليه باباً من البعوض فستروا عين الشمس وأكلوا عسكره ولم يتركوا إلا العظام، ودخلت واحدة منها في دماغه فأكلته حتى صارت مثل الفأرة؛ فكان أعز الناس عنده بعد ذلك من يضرب دماغه بمطرقة عتيدة لذلك، فبقي في البلاء أربعين يوما‏.‏ قال ابن جريح‏:‏ هو أول ملك في الأرض‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وهذا مردود‏.‏ وقال قتادة‏:‏ هو أول من تجبر وهو صاحب الصرح ببابل‏.‏ وقيل‏:‏ إنه ملك الدنيا بأجمعها؛ وهو أحد الكافرين؛ والآخر بختنصر‏.‏ وقيل‏:‏ إن الذي حاج إبراهيم نمروذ بن فالخ بن عابر بن شالخ بن أرفخشد بن سام؛ حكى جميعه ابن عطية‏.‏ وحكى السهيلي أنه النمروذ بن كوش بن كنعان بن حام بن نوح وكان ملكاً على السواد وكان ملكه الضحاك الذي يعرف بالازدهاق واسمه بيوراسب بن أندراست وكان ملك الأقاليم كلها، وهو الذي قتله أفريدون بن أثفيان؛ وفيه يقول حبيب‏:‏

وكأنه الضحاك من فتكاته في العالمين وأنت أفريدون

وكان الضحاك طاغيا جبارا ودام ملكه ألف عام فيما ذكروا‏.‏ وهو أول من صلب وأول من قطع الأيدي والأرجل، وللنمروذ ابن لصلبه يسمى (1)‏ أو نحو هذا الاسم، وله ابن يسمى نمروذ الأصغر‏.‏ وكان ملك نمروذ الأصغر عاما واحدا، وكان ملك نمروذ الأكبر أربعمائة عام فيما ذكروا‏.‏ وفي قصص هذه المحاجة روايتان‏:‏ إحداهما أنهم خرجوا إلى عيد لهم فدخل إبراهيم على أصنامهم فكسرها؛ فلما رجعوا قال لهم‏:‏ أتعبدون ما تنحتون ‏؟‏ فقالوا‏:‏ فمن تعبد‏؟‏ قال‏:‏ أعبد ربي الذي يحيي ويميت‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ إن نمروذ كان يحتكر الطعام فكانوا إذا احتاجوا إلى الطعام يشترونه منه، فإذا دخلوا عليه سجدوا له؛ فدخل إبراهيم فلم يسجد له، فقال‏:‏ مالك لا تسجد لي قال‏:‏ أنا لا أسجد إلا لربي‏.‏ فقال له نمروذ‏:‏ من ربك ‏؟‏ قال إبراهيم‏:‏ ربي الذي يحيي ويميت‏.‏ وذكر زيد بن أسلم أن النمروذ هذا قعد يأمر الناس بالميرة، فكلما جاء قوم يقول‏:‏ من ربكم وإلهكم ‏؟‏ فيقولون أنت؛ فيقول‏:‏ ميروهم‏.‏ وجاء إبراهيم عليه السلام يمتار فقال له‏:‏ من ربك وإلهك ‏؟‏ قال إبراهيم‏:‏ ربي الذي يحيي ويميت؛ فلما سمعها نمروذ قال‏:‏ أنا أحيي وأميت؛ فعارضه إبراهيم بأمر الشمس فبهت الذي كفر، وقال لا تميروه؛ فرجع إبراهيم إلى أهله دون شيء فمر على كثيب رمل كالدقيق فقال في نفسه‏:‏ لو ملأت غرارتي من هذا فإذا دخلت به فرح الصبيان حتى أنظر لهم، فذهب بذلك فلما بلغ منزله فرح الصبيان وجعلوا يلعبون فوق الغرارتين ونام هو من الإعياء؛ فقالت امرأته‏:‏ لو صنعت له طعاما يجده حاضرا إذا انتبه، ففتحت إحدى الغرارتين فوجدت أحسن ما يكون من الحوارى فخبزته، فلما قام وضعته بين يديه فقال‏:‏ من أين هذا‏؟‏ فقالت‏:‏ من الدقيق الذي سقت‏.‏ فعلم إبراهيم أن الله تعالى يسر لهم ذلك‏.‏

قلت‏:‏ وذكر أبو بكر بن أبي شيبة عن أبي صالح قال‏:‏ انطلق إبراهيم النبي عليه السلام يمتار فلم يقدر على الطعام، فمر بسهلة حمراء فأخذ منها ثم رجع إلى أهله فقالوا‏:‏ ما هذا ‏؟‏ فقال‏:‏ حنطة حمراء؛ ففتحوها فوجدوها حنطة حمراء، قال‏:‏ وكان إذا زرع منها شيئا جاء سنبله من أصلها إلى فرعها حباً متراكباً‏.‏ وقال الربيع وغيره في هذا القصص‏:‏ إن النمروذ لما قال أنا أحيي وأميت أحضر رجلين فقتل أحدهما وأرسل الآخر فقال‏:‏ قد أحييت هذا وأمت هذا؛ فلما رد عليه بأمر الشمس بهت‏.‏ وروي في الخبر‏:‏ أن الله تعالى قال وعزتي وجلالي لا تقوم الساعة حتى آتي بالشمس من المغرب ليعلم أني أنا القادر على ذلك‏.‏ ثم أمر نمروذ بإبراهيم فألقي في النار، وهكذا عادة الجبابرة فإنهم إذا عورضوا بشيء وعجزوا عن الحجة اشتغلوا بالعقوبة، فأنجاه الله من النار، على ما يأتي‏.‏ وقال السدي‏:‏ إنه لما خرج إبراهيم من النار أدخلوه على الملك - ولم يكن قبل ذلك دخل عليه - فكلمه وقال له‏:‏ من ربك ‏؟‏ فقال‏:‏ ربي الذي يحيي ويميت‏.‏ قال النمروذ‏:‏ أنا أحيي وأميت، وأنا آخذ أربعة نفر فأدخلهم بيتا ولا يطعمون شيئا ولا يسقون حتى إذا جاعوا أخرجتهم فأطعمت اثنين فحييا وتركت اثنين فماتا‏.‏ فعارضه إبراهيم بالشمس فبهت‏.‏ وذكر الأصوليون في هذه الآية أن إبراهيم عليه السلام لما وصف ربه تعالى بما هو صفة له من الإحياء والإماتة لكنه أمر له حقيقة ومجاز، قصد إبراهيم عليه السلام إلى الحقيقة، وفزع نمروذ إلى المجاز وموه على قومه؛ فسلم له إبراهيم تسليم الجدل وانتقل معه من المثال وجاءه بأمر لا مجاز فيه ‏{‏فبهت الذي كفر‏{‏ أي انقطعت حجته ولم يمكنه أن يقول أنا الآتي بها من المشرق؛ لأن ذوي الألباب يكذبونه‏.‏

هذه الآية تدل على جواز تسمية الكافر ملكا إذا آتاه الملك والعز والرفعة في الدنيا، وتدل على إثبات المناظرة والمجادلة وإقامة الحجة‏.‏ وفي القرآن والسنة من هذا كثير لمن تأمله، قال الله تعالى‏{‏قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين‏}‏البقرة‏:‏ 111‏]‏‏.‏ ‏{‏إن عندكم من سلطان‏}‏يونس‏:‏ 68‏]‏ أي من حجة‏.‏ وقد وصف خصومة إبراهيم عليه السلام قومه ورده عليهم في عبادة الأوثان كما في سورة ‏[‏الأنبياء‏]‏ وغيرها‏.‏ وقال في قصة نوح عليه السلام‏{‏قالوا يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا‏}‏هود‏:‏ 32‏]‏ الآيات إلى قوله‏{‏وأنا بريء مما تجرمون‏}‏هود‏:‏ 35‏]‏‏.‏ وكذلك مجادلة موسى مع فرعون إلى غير ذلك من الآي‏.‏ فهو كله تعليم من الله عز وجل السؤال والجواب والمجادلة في الدين؛ لأنه لا يظهر الفرق بين الحق والباطل إلا بظهور حجة الحق ودحض حجة الباطل‏.‏ وجادل رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الكتاب وباهلهم بعد الحجة، على ما يأتي بيانه في ‏{‏آل عمران‏{‏‏.‏ وتحاج آدم وموسى فغلبه آدم بالحجة‏.‏ وتجادل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم السقيفة وتدافعوا وتقرروا وتناظروا حتى صدر الحق في أهله، وتناظروا بعد مبايعة أبي بكر في أهل الردة، إلى غير ذلك مما يكثر إيراده‏.‏ وفي قول الله عز وجل‏{‏فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم‏}‏آل عمران‏:‏ 66‏]‏ دليل على أن الاحتجاج بالعلم مباح شائع لمن تدبر‏.‏ قال المزني صاحب الشافعي‏:‏ ومن حق المناظرة أن يراد بها الله عز وجل وأن يقبل منها ما تبين‏.‏ وقالوا‏:‏ لا تصح المناظرة ويظهر الحق بين المتناظرين حتى يكونوا متقاربين أو مستويين في مرتبة واحدة من الدين والعقل والفهم والإنصاف، وإلا فهو مراء ومكابرة‏.‏

قراءات - قرأ علي بن أبي طالب ‏{‏ألم تر‏{‏ بجزم الراء، والجمهور بتحريكها، وحذفت الياء للجزم‏.‏ ‏{‏أن آتاه الله الملك‏{‏ في موضع نصب، أي لأن آتاه الله، أو من أجل أن آتاه الله‏.‏ وقرأ جمهور القراء ‏{‏أن أحيي‏{‏ بطرح الألف التي بعد النون من ‏{‏أنا‏{‏ في الوصل، وأثبتها نافع وابن أبي أويس، إذا لقيتها همزة في كل القرآن إلا في قوله تعالى‏{‏إن أنا إلا نذير‏}‏الأعراف‏:‏ 188‏]‏ فإنه يطرحها في هذا الموضع مثل سائر القراء لقلة ذلك، فإنه لم يقع منه في القرآن إلا ثلاثة مواضع أجراها مجرى ما ليس بعده همزة لقلته فحذف الألف في الوصل‏.‏ قال النحويون‏:‏ ضمير المتكلم الاسم فيه الهمزة والنون، فإذا قلت‏:‏ أنا أو أنه فالألف والهاء لبيان الحركة في الوقف، فإذا اتصلت الكلمة بشيء سقطتا؛ لأن الشيء الذي تتصل به الكلمة يقوم مقام الألف، فلا يقال‏:‏ أنا فعلت بإثبات الألف إلا شاذاً في الشعر كما قال الشاعر‏:‏

أنا سيف العشيرة فاعرفوني حميداً قد تذريت السناما

قال النحاس‏:‏ على أن نافعاً قد أثبت الألف فقرأ ‏{‏أنا أحيي وأميت‏{‏ ولا وجه له‏.‏ قال مكي‏:‏ والألف زائدة عند البصريين، والاسم المضمر عندهم الهمزة والنون وزيدت الألف للتقوية‏.‏ وقيل‏:‏ زيدت للوقف لتظهر حركة النون‏.‏ والاسم عند الكوفيين ‏{‏أنا‏{‏ بكماله؛ فنافع في إثبات الألف على قولهم على الأصل، وإنما حذف الألف من حذفها تخفيفاً؛ ولأن الفتحة تدل عليها‏.‏ قال الجوهري‏:‏ وأما قولهم ‏{‏أنا‏{‏ فهو اسم مكنى وهو للمتكلم وحده، وإنما بني على الفتح فرقا بينه وبين ‏{‏أن‏{‏ التي هي حرف ناصب للفعل، والألف الأخيرة إنما هي لبيان الحركة في الوقف، فإن توسطت الكلام سقطت إلا في لغة رديئة؛ كما قال‏:‏

أنا سيف العشيرة فاعرفوني حميداً قد تذريت السناما

وبَهُت الرجل وبَهِت وبُهت إذا انقطع وسكت متحيراً؛ عن النحاس وغيره‏.‏ وقال الطبري‏:‏ وحكي عن بعض العرب في هذا المعنى ‏{‏بَهَت‏{‏ بفتح الباء والهاء‏.‏ قال ابن جني قرأ أبو حيوة‏{‏فبهت الذي كفر‏{‏ بفتح الباء وضم الهاء، وهي لغة في ‏{‏بهت‏{‏ بكسر الهاء‏.‏ قال‏:‏ وقرأ ابن السميقع ‏{‏فبهت‏{‏ بفتح الباء والهاء على معنى فبهت إبراهيم الذي كفر؛ فالذي في موضع نصب‏.‏ قال‏:‏ وقد يجوز أن يكون بَهَت بفتحها لغة في بَهُت‏.‏ قال‏:‏ وحكى أبو الحسن الأخفش قراءة ‏{‏فبهت‏{‏ بكسر الهاء كغرق ودهش‏.‏ قال‏:‏ والأكثرون بالضم في الهاء‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وقد تأول قوم في قراءة من قرأ ‏{‏فبهت‏{‏ بفتحها أنه بمعنى سب وقذف، وأن نمروذ هو الذي سب حين انقطع ولم تكن له حيلة‏.‏

 الآية رقم ‏(‏259‏)‏

‏{‏أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها قال أنى يحيي هذه الله بعد موتها فأماته الله مائة عام ثم بعثه قال كم لبثت قال لبثت يوما أو بعض يوم قال بل لبثت مائة عام فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه وانظر إلى حمارك ولنجعلك آية للناس وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحما فلما تبين له قال أعلم أن الله على كل شيء قدير‏}‏

قوله تعالى‏{‏أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها‏{‏ ‏{‏أو‏{‏ للعطف حملا على المعنى والتقدير عند الكسائي والفراء‏:‏ هل رأيت كالذي حاج إبراهيم في ربه، أو كالذي مر على قرية‏.‏ وقال المبرد‏:‏ المعنى ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه، ألم تر من هو كالذي مر على قرية‏.‏ فأضمر في الكلام من هو‏.‏ وقرأ أبو سفيان بن حسين ‏{‏أو كالذي مر‏{‏ بفتح الواو، وهي واو العطف دخل عليها ألف الاستفهام الذي معناه التقرير‏.‏ وسميت القرية قرية لاجتماع الناس فيها؛ من قولهم‏:‏ قريت الماء أي جمعته، وقد تقدم‏.‏ قال سليمان بن بريدة وناجية بن كعب وقتادة وابن عباس والربيع وعكرمة والضحاك‏:‏ الذي مر على القرية هو عزير‏.‏ وقال وهب بن منبه وعبدالله بن عبيد بن عمير وعبدالله بن بكر بن مضر‏:‏ هو إرمياء وكان نبياً‏.‏ وقال ابن إسحاق‏:‏ إرمياء هو الخضر، وحكاه النقاش عن وهب بن منبه‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وهذا كما تراه، إلا أن يكون اسما وافق اسما؛ لأن الخضر معاصر لموسى، وهذا الذي مر على القرية هو بعده بزمان من سبط هارون فيما رواه وهب بن منبه‏.‏

قلت‏:‏ إن كان الخضر هو إرمياء فلا يبعد أن يكون هو؛ لأن الخضر لم يزل حيا من وقت موسى حتى الآن على الصحيح في ذلك، على ما يأتي بيانه في سورة ‏{‏الكهف‏{‏‏.‏ وإن كان مات قبل هذه القصة فقول ابن عطية صحيح، والله أعلم‏.‏ وحكى النحاس ومكي عن مجاهد أنه رجل من بني إسرائيل غير مسمى‏.‏ قال النقاش‏:‏ ويقال هو غلام لوط عليه السلام‏.‏ وحكى السهيلي عن القتبي هو شعيا في أحد قوليه‏.‏ والذي أحياها بعد خرابها كوشك الفارسي‏.‏ والقرية المذكورة هي بيت المقدس في قول وهب بن منبه وقتادة والربيع بن أنس وغيرهم‏.‏ قال‏:‏ وكان مقبلا من مصر وطعامه وشرابه المذكور تين أخضر وعنب وركوة من خمر‏.‏ وقيل من عصير‏.‏ وقيل‏:‏ قلة ماء هي شرابه‏.‏ والذي أخلى بيت المقدس حينئذ بختنصر وكان واليا على العراق للهراسب ثم ليستاسب بن لهراسب والد اسبندياد‏.‏ وحكى النقاش أن قوما قالوا‏:‏ هي المؤتفكة‏.‏ وقال ابن عباس في رواية أبي صالح‏:‏ إن بختنصر غزا بني إسرائيل فسبى منهم أناسا كثيرة فجاء بهم وفيهم عزير بن شرخيا وكان من علماء بني إسرائيل فجاء بهم إلى بابل، فخرج ذات يوم في حاجة له إلى دير هزقل على شاطئ الدجلة‏.‏ فنزل تحت ظل شجرة وهو على حمار له، فربط الحمار تحت ظل الشجرة ثم طاف بالقرية فلم ير بها ساكنا وهي خاوية على عروشها فقال‏:‏ أنى يحيي هذه الله بعد موتها‏.‏ وقيل‏:‏ إنها القرية التي خرج منها الألوف حذر الموت؛ قاله ابن زيد‏.‏ وعن ابن زيد أيضا أن القوم الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا، مر رجل عليهم وهم عظام نخرة تلوح فوقف ينظر فقال‏:‏ أنى يحيي هذه الله بعد موتها فأماته الله مائة عام‏.‏ قال‏:‏ ابن عطية‏:‏ وهذا القول من ابن زيد مناقض لألفاظ الآية، إذ الآية إنما تضمنت قرية خاوية لا أنيس فيها، والإشارة بـ ‏{‏ـهذه‏{‏ إنما هي إلى القرية‏.‏ وإحياؤها إنما هو بالعمارة ووجود البناء والسكان‏.‏ وقال وهب بن منبه وقتادة والضحاك والربيع وعكرمة‏:‏ القرية بيت المقدس لما خربها بختنصر البابلي‏.‏ وفي الحديث الطويل حين أحدثت بنو إسرائيل الأحداث وقف إرمياء أو عزير على القرية وهي كالتل العظيم وسط بيت المقدس، لأن بختنصر أمر جنده بنقل التراب إليه حتى جعله كالجبل، ورأى إرمياء البيوت قد سقطت حيطانها على سقفها فقال‏:‏ أنى يحيي هذه الله بعد موتها‏.‏

والعريش‏:‏ سقف البيت‏.‏ وكل ما يتهيأ ليظل أو يكن فهو عريش؛ ومنه عريش الدالية؛ ومنه قوله تعالى‏{‏ومما يعرشون‏}‏النحل‏:‏ 68‏]‏‏.‏ قال السدي‏:‏ يقول هي ساقطة على سقفها، أي سقطت السقف ثم سقطت الحيطان عليها؛ واختاره الطبري‏.‏ وقال غير السدي‏:‏ معناه خاوية من الناس والبيوت قائمة؛ وخاوية معناها خالية؛ وأصل الخواء الخلو؛ يقال‏:‏ خَوَت الدار وخَوِيَتْ تخوى خواء ‏(‏ممدود‏)‏ وخُوِياً‏:‏ أقْوَتْ، وكذلك إذا سقطت؛ ومنه قوله تعالى‏{‏فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا‏}‏النمل‏:‏ 52‏]‏ أي خالية، ويقال ساقطة؛ كما يقال‏{‏فهي خاوية على عروشها‏{‏ أي ساقطة على سقفها‏.‏ والخَواء الجوع لخلو البطن من الغذاء‏.‏ وخوت المرأة وخويت أيضا خوًى أي خلا جوفها عند الولادة‏.‏ وخويت لها تخوية إذا عملت لها خوية تأكلها وهي طعام‏.‏ والخوي البطن السهل من الأرض على فعيل‏.‏ وخوى البعير إذا جافى بطنه عن الأرض في بروكه، وكذلك الرجل في سجوده‏.‏

قوله تعالى‏{‏قال أنى يحيي هذه الله بعد موتها‏{‏ معناه من أي طريق وبأي سبب، وظاهر اللفظ السؤال عن إحياء القرية بعمارة وسكان، كما يقال الآن في المدن الخربة التي يبعد أن تعمر وتسكن‏:‏ أنى تعمر هذه بعد خرابها‏.‏ فكأن هذا تلهف من الواقف المعتبر على مدينته التي عهد فيها أهله وأحبته‏.‏ وضرب له المثل في نفسه بما هو أعظم مما سأل عنه، والمثال الذي ضرب له في نفسه يحتمل أن يكون على أن سؤاله إنما كان على إحياء الموتى من بني آدم، أي أنى يحيي الله موتاها‏.‏ وقد حكى الطبري عن بعضهم أنه قال‏:‏ كان هذا القول شكا في قدرة الله تعالى على الإحياء؛ فلذلك ضرب له المثل في نفسه‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وليس يدخل شك في قدرة الله تعالى على إحياء قرية بجلب العمارة إليها وإنما يتصور الشك من جاهل في الوجه الآخر، والصواب ألا يتأول في الآية شك‏.‏

قوله تعالى‏{‏فأماته الله مائة عام‏{‏ ‏{‏مائة‏{‏ نصب على الظرف‏.‏ والعام‏:‏ السنة؛ يقال‏:‏ سِنون عُوَّم وهو تأكيد للأول؛ كما يقال‏:‏ بينهم شغل شاغل‏.‏ وقال العجاج‏:‏

من مر أعوام السنين العُوَّم

وهو في التقدير جمع عائم، إلا أنه لا يفرد بالذكر؛ لأنه ليس باسم وإنما هو توكيد، قال الجوهري‏.‏ وقال النقاش‏:‏ العام مصدر كالعَوْم؛ سمي به هذا القدر من الزمان لأنها عومة من الشمس في الفلك‏.‏ والعوم كالسَّبْح؛ وقال الله تعالى‏{‏كل في فلك يسبحون‏}‏الأنبياء‏:‏ 33‏]‏‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ هذا بمعنى قول النقاش، والعام على هذا كالقول والقال، وظاهر هذه الإماتة أنها بإخراج الروح من الجسد‏.‏ وروي في قصص هذه الآية أن الله تعالى بعث لها ملكا من الملوك يعمرها ويجد في ذلك حتى كان كمال عمارتها عند بعث القائل‏.‏ وقد قيل‏:‏ إنه لما مضى لموته سبعون سنة أرسل الله ملكا من ملوك فارس عظيما يقال له ‏{‏كوشك‏{‏ فعمرها في ثلاثين سنة‏.‏

قوله تعالى‏{‏ثم بعثه‏{‏ معناه أحياه، وقد تقدم الكلام فيه‏.‏

قوله تعالى‏{‏قال كم لبثت‏{‏ اختلف في القائل له ‏{‏كم لبثت‏{‏؛ فقيل الله جل وعز؛ ولم يقل له إن كنت صادقا كما قال للملائكة على ما تقدم‏.‏ وقيل‏:‏ سمع هاتفا من السماء يقول له ذلك‏.‏ وقيل‏:‏ خاطبه جبريل‏.‏ وقيل‏:‏ نبي‏.‏ وقيل‏:‏ رجل مؤمن ممن شاهده من قومه عند موته وعمر إلى حين إحيائه فقال له‏:‏ كم لبثت‏.‏

قلت‏:‏ والأظهر أن القائل هو الله تعالى؛ لقوله‏{‏وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحما‏{‏ والله أعلم‏.‏ وقرأ أهل الكوفة ‏{‏كم لبثت‏{‏ بإدغام الثاء في التاء لقربها منها في المخرج‏.‏ فإن مخرجهما من طرف اللسان وأصول الثنايا وفي أنهما مهموستان‏.‏ قال النحاس‏:‏ والإظهار أحسن لتباين مخرج الثاء من مخرج التاء‏.‏ ويقال‏:‏ كان هذا السؤال بواسطة الملك على جهة التقرير‏.‏ و‏{‏كم‏{‏ في موضع نصب على الظرف‏.‏

قوله تعالى‏{‏قال لبثت يوما أو بعض يوم‏{‏ إنما قال هذا على ما عنده وفي ظنه، وعلى هذا لا يكون كاذبا فيما أخبر به؛ ومثله قول أصحاب الكهف ‏{‏قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم‏}‏الكهف‏:‏ 19‏]‏ وإنما لبثوا ثلاثمائة سنة وتسع سنين - على ما يأتي - ولم يكونوا كاذبين لأنهم أخبروا عما عندهم، كأنهم قالوا‏:‏ الذي عندنا وفي ظنوننا أننا لبثنا يوما أو بعض يوم‏.‏ ونظيره قول النبي صلى الله عليه وسلم في قصة ذي اليدين‏:‏ ‏(‏لم أقصر ولم أنْس‏)‏‏.‏ ومن الناس من يقول‏:‏ إنه كذب على معنى وجود حقيقة الكذب فيه ولكنه لا مؤاخذة به، وإلا فالكذب الإخبار عن الشيء على خلاف ما هو عليه وذلك لا يختلف بالعلم والجهل، وهذا بين في نظر الأصول‏.‏ فعلى هذا يجوز أن يقال‏:‏ إن الأنبياء لا يعصمون عن الإخبار عن الشيء على خلاف ما هو عليه إذا لم يكن عن قصد، كما لا يعصمون عن السهو والنسيان‏.‏ فهذا ما يتعلق بهذه الآية، والقول الأول أصح‏.‏ قال ابن جريج وقتادة والربيع‏:‏ أماته الله غدوة يوم ثم بعث قبل الغروب فظن هذا اليوم واحداً فقال‏:‏ لبثت يوما، ثم رأى بقية من الشمس فخشى أن يكون كاذبا فقال‏:‏ أو بعض يوم‏.‏ فقيل‏:‏ بل لبثت مائة عام؛ ورأى من عمارة القرية وأشجارها ومبانيها ما دله على ذلك‏.‏

قوله تعالى‏{‏فانظر إلى طعامك‏{‏ وهو التين الذي جمعه من أشجار القرية التي مر عليها‏.‏ ‏{‏وشرابك لم يتسنه‏{‏ قرأ ابن مسعود ‏{‏وهذا طعامك وشرابك لم يتسنه‏{‏‏.‏ وقرأ طلحة بن مصرف غيره ‏{‏وانظر لطعامك وشرابك لمائة سنة‏{‏‏.‏ وقرأ الجمهور بإثبات الهاء في الوصل إلا الأخوان فإنهما يحذفانها، ولا خلاف أن الوقف عليها بالهاء‏.‏ وقرأ طلحة بن مصرف أيضا ‏{‏لم يسن‏{‏ ‏{‏وانظر‏{‏ أدغم التاء في السين؛ فعلى قراءة الجمهور الهاء أصلية، وحذفت الضمة للجزم، ويكون ‏{‏يتسنه‏{‏ من السنة أي لم تغيره السنون‏.‏ قال الجوهري‏:‏ ويقال سنون، والسنة واحدة السنين، وفي نقصانها قولان‏:‏ أحدهما الواو، والآخر الهاء‏.‏ وأصلها سَنْهة مثل الجبهة؛ لأنه من سنهت النخلة وتسنهت إذا أتت عليها السنون‏.‏ ونخلة سناء أي تحمل سنة ولا تحمل أخرى؛ وسنهاء أيضا، قال بعض الأنصار‏:‏

فليست بسنهاء ولا رجبية ولكن عرايا في السنين الجوائح

وأسنهت عند بني فلان أقمت عندهم، وتسنيت أيضا‏.‏ واستأجرته مساناة ومسانهة أيضا‏.‏ وفي التصغير سنية وسنيهة‏.‏ قال النحاس‏:‏ من قرأ ‏{‏لم يتسن‏{‏ و‏{‏انظر‏{‏ قال في التصغير‏:‏ سُنّية وحذفت الألف للجزم، ويقف على الهاء فيقول‏{‏لم يتسنه‏{‏ تكون الهاء لبيان الحركة‏.‏ قال المهدوي‏:‏ ويجوز أن يكون أصله من سانَيْتُه مساناة، أي عاملته سنة بعد سنة، أو من سانهت بالهاء؛ فإن كان من سانيت فأصله يتسنى فسقطت الألف للجزم؛ وأصله من الواو بدليل قولهم سنوات والهاء فيه للسكت، وإن كان من سانهت فالهاء لام الفعل؛ وأصل سنة على هذا سنهة‏.‏ وعلى القول الأول سَنَوَة‏.‏ وقيل‏:‏ هو من أسِنَ الماء إذا تغير، وكان يجب أن يكون على هذا يتأسن‏.‏ أبو عمرو الشيباني‏:‏ هو من قوله ‏{‏حمأ مسنون‏}‏الحجر‏:‏ 26‏]‏ فالمعنى لم يتغير‏.‏ الزجاج، ليس كذلك؛ لأن قوله ‏{‏مسنون‏{‏ ليس معناه متغير وإنما معناه مصبوب على سنة الأرض‏.‏ قال المهدوي‏:‏ وأصله على قول الشيباني ‏{‏يتسنن‏{‏ فأبدلت إحدى النونين ياء كراهة التضعيف فصار يتسنى، ثم سقطت الألف للجزم ودخلت الهاء للسكت‏.‏ وقال مجاهد‏{‏لم يتسنه‏{‏ لم ينتن‏.‏ قال النحاس‏:‏ أصح ما قيل فيه أنه من السنة، أي لم تغيره السنون‏.‏ ويحتمل أن يكون من السنة وهي الجدب؛ ومنه قوله تعالى‏{‏ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين‏}‏الأعراف‏:‏ 130‏]‏ وقوله عليه السلام ‏(‏اللهم اجعلها عليهم سنين كسني يوسف‏)‏‏.‏ يقال منه‏:‏ أسنت القوم أي أجدبوا؛ فيكون المعنى لم يغير طعامك القحوط والجدوب، أو لم تغيره السنون والأعوام، أي هو باق على طراوته وغضارته‏.‏

قوله تعالى‏{‏وانظر إلى حمارك‏{‏ قال وهب بن منبه وغيره‏:‏ وانظر إلى اتصال عظامه وإحيائه جزءا جزءا‏.‏ ويروى أنه أحياه الله كذلك حتى صار عظاما ملتئمة، ثم كساه لحما حتى كمل حمارا، ثم جاءه ملك فنفخ فيه الروح فقام الحمار ينهق؛ على هذا أكثر المفسرين‏.‏ وروي عن الضحاك ووهب بن منبه أيضا أنهما قالا‏:‏ بل قيل له‏:‏ وانظر إلى حمارك قائما في مربطه لم يصبه شيء مائة عام؛ وإنما العظام التي نظر إليها عظام نفسه بعد أن أحيا الله منه عينيه ورأسه، وسائر جسده ميت، قالا‏:‏ وأعمى الله العيون عن إرمياء وحماره طول هذه المدة‏.‏

قوله تعالى‏{‏ولنجعلك آية للناس‏{‏ قال الفراء‏:‏ إنما ادخل الواو في قوله ‏{‏ولنجعلك‏{‏ دلالة على أنها شرط لفعل بعده، معناه ‏{‏ولنجعلك آية للناس‏{‏ ودلالة على البعث بعد الموت جعلنا ذلك‏.‏ وإن شئت جملت الواو مقحمة زائدة‏.‏ وقال الأعمش‏:‏ موضع كونه آية هو أنه جاء شابا على حاله يوم مات، فوجد الأبناء والحفدة شيوخا‏.‏ عكرمة‏:‏ وكان يوم مات ابن أربعين سنة‏.‏ وروي عن علي رضوان الله عليه أن عزيرا خرج من أهله وخلف امرأته حاملا، وله خمسون سنة فأماته الله مائة عام، ثم بعثه فرجع إلى أهله وهو ابن خمسين سنة وله ولد من مائة سنة فكان ابنه أكبر منه بخمسين سنة‏.‏ وروي عن ابن عباس قال‏:‏ لما أحيا الله عزيرا ركب حماره فأتى محلته فأنكر الناس وأنكروه، فوجد في منزله عجوزا عمياء كانت أمة لهم، خرج عنهم عزير وهي بنت عشرين سنة، فقال لها‏:‏ أهذا منزل عزير‏؟‏ فقالت نعم‏!‏ ثم بكت وقالت‏:‏ فارقنا عزير منذ كذا وكذا سنة‏!‏ قال‏:‏ فأنا عزير؛ قالت‏:‏ إن عزيرا فقدناه منذ مائة سنة‏.‏ قال‏:‏ فالله أماتني مائة سنة ثم بعثني‏.‏ قالت‏:‏ فعزير كان مستجاب الدعوة للمريض وصاحب البلاء فيفيق، فادع الله يرد علي بصري؛ فدعا الله ومسح على عينيها بيده فصحت مكانها كأنها أنشطت من عقال‏.‏ قالت‏:‏ أشهد أنك عزير‏!‏ ثم انطلقت إلى ملأ بني إسرائيل وفيهم ابن لعزير شيخ ابن مائة وثمان وعشرين سنة، وبنو بنيه شيوخ، فقالت‏:‏ يا قوم، هذا والله عزير فأقبل إليه ابنه مع الناس فقال ابنه‏:‏ كانت لأبي شامة سوداء مثل الهلال بين كتفيه؛ فنظرها فإذا هو عزير‏.‏ وقيل‏:‏ جاء وقد هلك كل من يعرف، فكان آية لمن كان حيا من قومه إذ كانوا موقنين بحاله سماعا‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وفي إماتته هذه المدة ثم إحيائه بعدها أعظم آية، وأمره كله آية غابر الدهر، ولا يحتاج إلى تخصيص بعض ذلك دون بعض‏.‏

قوله تعالى‏{‏وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحما‏{‏ قرأ الكوفيون وابن عامر بالزاي والباقون بالراء، وروى أبان عن عاصم ‏{‏ننشرها‏{‏ بفتح النون وضم الشين والراء، وكذلك قرأ ابن عباس والحسن وأبو حيوة؛ فقيل‏:‏ هما لغتان في الإحياء بمعنى؛ كما يقال رجع ورجعته، وغاض الماء وغضته، وخسرت الدابة وخسرتها؛ إلا أن المعروف في اللغة أنشر الله الموتى فنشروا، أي أحياهم الله فحيوا؛ قال الله تعالى‏{‏ثم إذا شاء أنشره‏{‏ ويكون نشرها مثل نشر الثوب‏.‏ نشر الميت ينشر نشورا أي عاش بعد الموت؛ قال الأعشى‏:‏

حتى يقول الناس مما رأوا يا عجبا للميت الناشر

فكأن الموت طي للعظام والأعضاء، وكأن الإحياء وجمع الأعضاء بعضها إلى بعض نشر‏.‏ وأما قراءة ‏{‏ننشزها‏{‏ بالزاي فمعناه نرفعها‏.‏ والنشز‏:‏ المرتفع من الأرض؛ قال‏:‏

ترى الثعلب الحولي فيها كأنه إذا ما علا نشزا حصان مجلل

قال مكي‏:‏ المعنى‏:‏ انظر إلى العظام كيف نرفع بعضها على بعض في التركيب للإحياء؛ لأن النشز الارتفاع؛ ومنه المرأة النشوز، وهي المرتفعة عن موافقة زوجها؛ ومنه قوله تعالى‏{‏وإذا قيل انشزوا فانشزوا‏}‏المجادلة‏:‏ 11‏]‏ أي ارتفعوا وانضموا‏.‏ وأيضا فإن القراءة بالراء بمعنى الإحياء، والعظام لا تحيا على الانفراد حتى ينضم بعضها إلى بعض، والزاي أولى بذلك المعنى، إذ هو ، بمعنى الانضمام دون الإحياء‏.‏ فالموصوف بالإحياء هو الرجل دون العظام على انفرادها، ولا يقال‏:‏ هذا عظم حي، وإنما المعنى فانظر إلى العظام كيف نرفعها من أماكنها من الأرض إلى جسم صاحبها للإحياء‏.‏ وقرأ النخعي ‏{‏ننشزها‏{‏ بفتح النون وضم الشين والزاي؛ وروي ذلك عن ابن عباس وقتادة‏.‏ وقرأ أبي بن كعب ‏{‏ننشيها‏{‏ بالياء‏.‏

والكسوة‏:‏ ما وارى من الثياب، وشبه اللحم بها‏.‏ وقد استعاره لبيد للإسلام فقال‏:‏

حتى اكتسيت من الإسلام سربالا

وقد تقدم أول السورة‏.‏

قوله تعالى‏{‏فلما تبين له قال أعلم أن الله على كل شيء قدير‏{‏ بقطع الألف‏.‏ وقد روي أن الله جل ذكره أحيا بعضه ثم أراه كيف أحيا باقي جسده‏.‏ قال قتادة‏:‏ إنه جعل ينظر كيف يوصل بعض عظامه إلى بعض؛ لأن أول ما خلق الله منه ورأسه وقيل له‏:‏ انظر، فقال عند ذلك‏{‏أعلم‏{‏ بقطع الألف، أي أعلم هذا‏.‏ وقال الطبري‏:‏ المعنى في قوله ‏{‏فلما تبين له‏{‏ أي لما اتضح له عيانا ما كان مستنكرا في قدرة الله عنده قبل عيانه قال‏:‏ أعلم‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وهذا خطأ؛ لأنه ألزم ما لا يقتضيه اللفظ، وفسر على القول الشاذ والاحتمال الضعيف، وهذا عندي ليس بإقرار بما كان قبل ينكره كما زعم الطبري، بل هو قول بعثه الاعتبار؛ كما يقول الإنسان المؤمن إذا رأى شيئا غريبا من قدرة الله تعالى‏:‏ لا إله إلا الله ونحو هذا‏.‏ وقال أبو علي‏:‏ معناه أعلم هذا الضرب من العلم الذي لم أكن علمته‏.‏

قلت‏:‏ وقد ذكرنا هذا المعنى عن قتادة، وكذلك قال مكي رحمه الله، قال مكي‏:‏ إنه أخبر عن نفسه عندما عاين من قدرة الله تعالى في إحيائه الموتى، فتيقن ذلك بالمشاهدة، فأقرأنه يعلم أن الله على كل شيء قدير، أي أعلم أنا هذا الضرب من العلم الذي لم أكن أعلمه على معاينة؛ وهذا على قراءة من قرأ ‏{‏أعلم‏{‏ بقطع الألف وهم الأكثر من القراء‏.‏ وقرأ حمزة والكسائي بوصل الألف، ويحتمل وجهين‏:‏ أحدهما قال له الملك‏:‏ اعلم، والآخر هو أن ينزل نفسه منزلة المخاطب الأجنبي المنفصل؛ فالمعنى فلما تبين له قال لنفسه‏:‏ اعلمي يا نفس هذا العلم اليقين الذي لم تكوني تعلمين معاينة؛ وأنشد أبو علي في مثل هذا المعنى‏:‏

ودع هريرة إن الركب مرتحل

ألم تغتمض عيناك ليلة أرمدا

قال ابن عطية‏:‏ وتأنس أبو علي في هذا الشعر بقول الشاعر‏:‏

تذكر من أنى ومن أين شربه يؤامر نفسيه كذي الهجمة الأبل

قال مكي‏:‏ ويبعد أن يكون ذلك أمرا من الله جل ذكره له بالعلم؛ لأنه قد أظهر إليه قدرته، وأراه أمرا أيقن صحته وأقر بالقدرة فلا معنى لأن يأمره الله بعلم ذلك، بل هو يأمر نفسه بذلك وهو جائز حسن‏.‏ وفي حرف عبدالله ما يدل على أنه أمر من الله تعالى له بالعلم على معنى ألزم هذا العلم لما عاينت وتيقنت، وذلك أن في حرفه‏:‏ قيل اعلم‏.‏ وأيضا فإنه موافق لما قبله من الأمر في قوله ‏{‏انظر إلى طعامك‏{‏ و‏{‏انظر إلى حمارك‏{‏ و‏{‏انظر إلى العظام ‏{‏فكذلك ‏{‏واعلم أن الله‏{‏ وقد كان ابن عباس يقرؤها ‏{‏قيل اعلم‏{‏ ويقول أهو خير أم إبراهيم‏؟‏ إذ قيل له‏{‏واعلم أن الله عزيز حكيم‏{‏‏.‏ فهذا يبين أنه من قول الله سبحانه له لما عاين من الإحياء‏.‏